6/11/2022

أم ميمي و بيت سري.. ما فعلته الدعارة بالأدب

 في الصيف الماضي قرأت رواية "أم ميمي" لبلال فضل، ومع بداية هذا الصيف قادتني الصدفة لقراءة رواية قديمة من سلسلة مختارات "الكرمة" لعثمان صبري، وهو قاضي ولد في نهاية القرن التاسع عشر، درس الحقوق في فرنسا، وكتب بعض المسرحيات، قامت دار الكرمة باعادة نشر روايته "بيت سري" التي نُشرت في عام 1982 ولم تحظ باهتمام جماهيري أو نقدي كبير.

أدهشني التشابه المتعدد بين الروايتين في البناء والمأزق واشكالية اللغة، الروايتان تطرحان سؤال، ما الذي يمكن أن يحدث  عند تورط أحد أبناء الطبقة الوسطى في عالم الليل والدعارة  بسبب صعوبة حالته المادية، في "أم ميمي" المستوحاة من حياة الكاتب الحقيقية، يضطر الطالب القادم من الاسكندرية للدراسة في كلية الاعلام للإقامة في غرفة مفروشة مع أم ميمي وابنها، في شارع خلفي من شوارع  الهرم، ليصطدم بتاريخ وصراعات عائلة عملت بالدعارة وفقدت كل قيم المجتمع المتعارف عليها، في "بيت سري" يضطر الموظف المحال للمعاش لتأجير الدور العلوي من منزله في حي "عابدين" لرجل سخي يتضح أنه سيحول الطابق لبيت سري، وهو الاسم الشائع لبيوت الدعارة في الماضي.

المشكلة التي واجهها كلا المؤلفين هي كيفية نقل هذا العالم من خلال اللغة، فكما يقول بلال فضل "مش هاخلي شخصية  قواد بيشتم واحدة فيقول تبا لك"، فالمطلوب هو نقل حقيقي لذلك العالم حتى يصدقه القاريء، وهي المشكلة التي واجهها عثمان صبري بعمل مقدمة للرواية يطالب فيها بلغة عربية جديدة، تجمع بين العامية والفصحى متضمنة ، ويؤكد فيها أن الشخصيات التي تستخدم ألفاظا "خارجة" أو أفكار الحادية لا تعبر عن رأي المؤلف الشخصي، وكان ذلك تمهيدا لاستخدام  ألفاظ أعتقد أنها لم تًستخدم من قبله في الرواية المصرية مثل "معرص" و"شرموطة"، بعد مضي 40 عاما كان  بلال فضل  في موقف مشابه، ولكنه اكتفى بكتابة تحذير ساخر في بداية الرواية عن الواقع الذي  لا نريد سماع ألفاظه، وخرق فيها جميع المحظورات في استخدام العامية المصرية " الابيحة"، وذلك مع الاحتفاظ بلغة السرد الفصحى التي قد تصل لدرجة الرصانة، في تناقض بين لغة سرد البطل ولغة الواقع الذي يعيشه.


للقوادين منطقهم


كان على الروايتين أن تقدما شخصية القواد بعيدا عن صورة الشرير التقليدي المتاجر في البشر، ولكن مع فارق رئيسي، في "أم ميمي" يبدو القواد أكثر منطقية وقربا للواقع، فهو شخص تعرض لظروف مادية  قادته لذلك الطريق، يبدو مجرما عتيدا في رواية أم ميمي عنه، ولكنه يبدو بصورة أكثر انسانية مع لقاء البطل به، فهو قد يستخدم المطواة مع ابنه ولكنه حكاء وطباخ ماهر ومستمع متميز للاذاعة.

أما في "بيت سري" فتبدو شخصية القواد مزيجا من شخصية الشيطان والمؤلف، فمنطق القواد يكشف عن شخص دارس للمنطق والتاريخ، وصل في فكره للالحاد الذي أباح له كل شيء، وجعل كل شيء نسبي بما فيه مفاهيم الشرف والفضيلة التي تخطاها الزمن، وهو منطق مشابه لتصور المؤلف حول تطوير اللغة العربية التي تخطاها الزمن ولم تتغير منذ 1400 عام في مقدمته.

فبينما يبدو البطل المتورط في "أم ميمي" أقرب للكاتب، نقرأ أفكار وافتراضات  ومنطق الكاتب في "بيت سري" على لسان القواد، وهو ما يؤدي لانتصاره في المناقشات على موظف المعاش واقناعه تدريجيا بالاشتراك في إدارة البيت السري.

وهو ما يظهر في بناء الروايتين، في أم ميمي هدف البطل هو الخروج من هذا البيت بأقل خسائر ممكنة، بعد ما شاهد عالما لم يكن يتخيل وجوده بتلك الكيفية، وكما يقول المؤلف فهدفه هو أن يدرك المجتمع وجود من هم تحت الأرض كيف يفكرون ويعيشون ولماذا وصلوا لذلك، دون احكام أخلاقية أو تقديم حلول اجتماعية، أما في بيت سري فالهدف يبدو مرتبكا هل هو ايصال فكرة نسبية الأخلاق وتطورها عبر الزمان والمكان، أم هو الوعظ الأخلاقي عن عاقبة الفساد.

 في مقابل منطق القواد القوي يأتي الرد المقابل في صورة مجموعة من المصائب التي تحل يالقواد ومع من يتعاملون معه على طريقة العقاب الإلهي وكأنها انتصار لأفكار موظف المعاش الذي لم يصمد أمام إغراء المال ومنطق القواد، فاحتوت الرواية على نهاية لا تتوافق مع بنائها بل متوافقة مع النهاية المسرحية الأخلاقية المطلوبة.


الصنعة تحكم


نلاحظ في كلتا الروايتين تأثر كل كاتب بخبرته السابقة في الكتابة الفنية، فعثمان صبري احتفظ بخصائص المسرح من وحدة الزمان والمكان، فأغلب الأحداث تدور في منزل واحد، والأحداث الأخرى تتم روايتها للقاريء عبر الابطال، فيمكن بسهولة تحويل الرواية لمسرحية تعتمد على منظر واحد أو منظرين.

وفي "أم ميمي" يظهر تأثير كتابة السيناريو والحوار على بلال فضل، الايقاع السريع وتتابع المشاهد ووصف الأجواء، والايفيهات القوية، فكلا المؤلفين يسعيان للوصول لجمهور كبير لا مجرد جمهور الأدب المعتاد، باحثين عن مزيج المتعة والأدب، ولكن احتفظ كلاهما بفكرة الضحك والسخرية التي ربما وجداها الأنسب لمواجهة هذا الموضوع الشائك، فالسخرية تسهل من قبول الإنسان لموضوعات قد يرفض مناقشتها بشكل جاد.


لا تقتصر مشكلة تناول الأدب أو الفن للدعارة على الوقوع في فخ الابتذال أو تنميط العاملين فيها كملائكة وضحايا للمجتمع اضطرتهم ظروفهم الصعبة لطريق الخطيئة، بل تتعدى ذلك لمشكلة اللغة في الأدب والفن، الفصحى أم العامية، المهذبة أم الصريحة، وتظهر تلك المشكلة بوضوح أكبر في مثل هذه الموضوعات لأن الفارق كبير في لغة هذه الأجواء بين الواقع وفي الادب، وأن ما قدمه نجيب محفوظ في حوار بائعات الهوى بالفصحى يصعب تقديمه بعد مضي سنوات، وأن الجدل الدائر حول اللغة المكتوبة مستمر من بدايات القرن العشرين وكتاب "نحو أبجدية جديدة" لعثمان صبري عام 1964، حتى تعليقات موقع "جود ريدز" على كيفية استخدام اللغة اليومية في  الكتب والروايات في 2022.